الاثنين، 12 ديسمبر 2016

المدينة التي تحتوي على ثلث كنوز العالم ...

السبت 5 تشرين الاول 2016

وصلت الى محطة قطار (الاقصر) في اقصى جنوب مصر في حوالي العاشرة والنصف مساءا ... كنت اشعر بالانهاك بعد عشرة ساعات من السفر بالقطار .. ف(الاقصر) تبعد حوالي سبعمائة كيلومتراً عن (القاهرة) ...  اي تقريبا المسافة من اقصى شمال العراق الى اقصى جنوبه...كنت مضطرا للسفر بالقطار والذي كان الحل الوحيد لي للذهاب الى (الاقصر) حيث جميع الطائرات لهذا الاسبوع كانت محجوزة... ورغم انني ركبت في (الدرجة اولى -تكييف) في مايسمى القطار (الاكسبريس) الا انه كان قطاراً بائساُ.!!. والتجربة كانت سيئة ولا انصح بها لاحد!..

في طريقي كنت اعيد قراءة معلومات من الانترنيت عن (ألاقصر).... عُرفت الأقصر عبر العصور المختلفة بالعديد من الأسماء، ففي بدايتها كانت تسمى مدينة "وايست"، ثم أطلق عليها الرومان بعد ذلك اسم "طيبة"، وأطلق عليها الشاعر الإغريقي هوميروس في (الإلياذة) تسمية مدينة (المائة باب)، كما  وسُميت  باسم "مدينة الشمس"، "مدينة النور"، و"مدينة الصولجان"، وبعد الفتح العربي لمصر، أطلق عليها العرب  اسم "الأقصر" وهو جمع الجمع لكلمة قصر حيث أن المدينة كانت تحتوي على الكثير من قصور الفراعنة. يرجع تأسيس مدينة (طيبة)   إلى عصر الأسرة الرابعة حوالي عام 2575 ق.م....
في محطة قطار (الاقصر) سحبت حقيبتي وركبت سيارة اجرة واعطيتهم عنوان فندق كنت قد حجزت فيه  في الانترنيت وكان هناك الكثير ممن كتبوا عن الفندق يمتدحونه كما ان اسعاره مقبولة... وصلت الفندق واستقبلني موظف الاستعلامات وهو رجل خمسيني في عمره ... اعطيته اجور ليلة واحدة ثم اخذت مفتاح غرفتي ... طلب مني جواز سفري فاخبرته ان الجواز قد بقي مع شركة السياحة التي جئت معها من بغداد.... وان الجواز يبقى عندهم امانة ..ويعطوننا (كارت ابيض) يعوض عن الجواز... سلمته الكارت الابيض ولدهشتي فقد كانت ضابطة الشرطة في مطار القاهرة قد اغفلت عن ختمه بختم دخول القاهرة ولم توقع عليه ولايوجد اي دليل عن تأريخ دخولي مصر .. كارت فارغ الا من اسمي الثلاثي !! رفض الرجل اعتماد البطاقة قائلا بانها غير رسمية لانها ليست مختومة او موقعة من سلطة المطار... اخرجت له هوية نقابة الاطباء وهوية اخرى عراقية فرفضها قائلا بان هذا يمكن ان يسبب له مشكلة كبيرة مع الشرطة وانهم قد يغلقوا فندقه بسببها ...وانه سبق ان اغلق الفندق بسبب مشابه ... مالعمل اذا ؟ قال انه يعتذر عن استقبالي ... واعاد لي المبلغ الذي دفعته واخذ مني مفتاح الغرفة!!...
كان عندي عنوان بديل لفندق اخر... سحبت حقيبتي وخرجت وعندما سألت الناس عن مكان الفندق الثاني .. لم يكن بعيدا كثيرا .. ربما عشرة دقائق على الاقدام ... تمشيت مرورا بسوق شعبي مزدحم بالمتسوقين رغم ان الساعة قد قاربت منتصف الليل ... هؤلاء الصعايدة يتسوقون بالليل بسبب الحر اثناء النهار... والشوارع والاسواق تعج بالبضاعه وبالنساء والرجال المتسوقون ..والمطاعم مزدحمة بالزبائن والحياة في هذه الساعة المتأخرة كما لو كانت في وقت الذروة في بغداد...
وصلت الفندق الثاني ... نفس الحكاية رفضوا استقبالي ... لنفس السبب .. البطاقة لا يمكن اعتمادها وسوف تسبب لهم مشكلة مع الشرطة ... استعطفت موظف الاستقبال واخذت اذكره بلمرؤة وبالكرم العربي ... وباننا عرب وان من واجب الضيافة عليه ان ابيت عنده هذه الليلة سواء في الفندق او حتى في بيته اذا لزم الامر... اذ اين  يمكن ان اذهب في هذه الساعة المتأخرة وقد جئت من مسافة بعيدة؟... في داخلي كنت اعطيهم العذر في اجراءاتهم الامنية المتشددة ... ففي عام 1997 هاجمت مجموعة من الارهابيين المتأسلمين افواجاً من السواح في الاقصر وقتلت ستة واربعين سائحاً اجنبياً واربعة من المصريين... ومن يومها صار الاقصر مكاناً مستهدفاً .. يخشى فيه على السواح ... كما انخفضت السياحة فيه الى حد كبير جداٌ....
يبدو ان موظف الاستعلامات  قد رق لكلامي أخيراً...  فطلب مني نسخة مصورة عن جوازي... اخبرته ان عندي نسخة على حاسوبي وان بامكاني ان اجلبها له على (فلاش دسك) خلال دقائق... اخيرا استلمت مفتاح غرفتي في الطابق الثالث ...الحمد لله .. لم اصدق نفسي عندما وصلت الى غرفتي... وفورا اخرجت حاسوبي ... حمُلت نسخة الجواز على (الفلاش دسك) .. ثم نزلت واعطيته ال (فلاش دسك)  ومعه هوية نقابة الاطباء...
في الصباح نزلت للفطور في حوالي الثامنة صباحا.. الحمد لله يبدو ان اقامتي في الفندق صارت رسمية ... اعطيت (عمرو) موظف الاستعلامات مبلغ عن الليلة القادمة ... ثم جلست لتناول الفطور.... فطور ممتاز يحتوي على كل ما تشتهيه... جميع الزبائن الجالسين للفطور هم من الاجانب ... كوريين ... امريكان .. اوربيين...
كنت اشعر بالسعادة لكوني قد بت ليلتي الاولى في (الاقصر)...
قرأت ان  الأقصر تضمّ ما يقارب ثلثي آثار العالم، نعم .. ثلثي أثار العالم اجمع هي في الاقصر!... كما أنها تضم العديد من المعالم الأثرية الفرعونية القديمة  يقسمها النيل الى  البرّين الشرقي والغربي للمدينة، يضم البر الشرقي (معبد الأقصر)، (معبد الكرنك)، و(طريق الكباش) الرابط بين المعبدين، و(متحف الأقصر)، أما البر الغربي فيضم (وادي الملوك،) معبد (حتشبسوت) و وادي الملكات، دير المدينة، ومعبد الرامسيوم.
سألت موظف الاستعلامات (عمرو) ان كان هناك اي رحلة ينظمها الفندق الى وادي الملوك ... اجابني ان هناك رحلة سوف تنطلق بعد دقائق... ونادى على الشاب الواقف بعيدا عنه .. كان الشاب (علاء الدين) هو الدليل السياحي ومتعهد الرحلة هذا الصباح الى (وادي الملوك)... قلت له سوف اكون جاهزا خلال عشرة دقائق...دفعت مبلغ الرحلة حوالي عشرة دولارات واخبرني علاء ان هناك مبالغ  اخرى اضافية سوف تدفع في مداخل المقابر الملكية ولكني سوف لن ادفع بالسعر المخصص للاجانب وانما بالسعر المخفض للمواطنين المصريين لكوني عربي ...
انطلقت بنا حافلة صغيرة (ميني باص)... علاء جلس في الصدر وبقية الركاب الخمسة  الذين ركبوا معي من فندقنا ... جلسنا في الخلف .. كنا في الجانب الشرقي من نهر النيل.. وصلنا الى حافة النهر فنزلنا الى قارب سار بنا الى الضفة الثانية من النيل ومن هناك ركبنا (ميني باص) ثاني انطلق بنا في اعماق الشاطئ الغربي للنيل او مايسمونه (البر الغربي)..  مررنا بمزارع كثيرة وكثيفة .. اخبرنا (علاء الدين) انها مزارع قصب السكر الذي تكثر زراعته هنا واشار الى سكة حديد ضيقة قال بان القصب ينقل بعربات سكة حديد من المزارع الى معمل لاستخلاص العصير .. ثم اخبرنا انه و بسبب حوادث ارهابية راح ضحيتها بعض السواح الاجانب وبسبب ارتفاع وكثافة نبات قصب السكر الذي يمكن ان يكمن فيه الارهابيون دون رؤيتهم... فقد تم منع  زراعته لغاية مئة متر تقريبا عن الشارع العام الرئيسي بين الاقصر والقاهرة...
كانت بداية جولتنا وصولنا الى معبد (الرامسيسوم) ....

 و (الرامسيسوم) هو من المعابد الجنائزية التي كانت تبنى للاموات في مصر القديمة... حكى لنا (علاء) انه بناه الملك (رمسيس الثاني)  ومن هنا جاءت تسميته (رمسيسيوم).. ويضم المعبد تماثيل ضخمة للملك رمسيس الثاني...وجانباً مهما من النقوش التي تحكي طبيعة الحياة في تلك الفترة .. وتسجل الصور والنقوش التي تزين جدار المعبد وقائع معركة (قادش) التي انتصر فيها الملك (رمسيس الثاني) على الحيثيين.. ومعظم تلك اللوحات تصور الاله (أمون) وهو يعطي الملك (رمسيس) سيفاً وقد امسك الملك بشعر رأس  احد الاسرى استعداداً  كي يقوم بقطع رقبته ...
كما ان الطريف ان هناك جداريات كبيرة تظهر الملك رمسيس وقد قطع المئات من ايدي اعدائه الذين وقعوا في الاسر.. كما انه  قام بقطع اعضائهم التناسلية .. وهناك جدارية كبيرة تراه فيه وقد امسك بالعضو التناسلي المقطوع بيده!!
كذلك فقد جعلنا (علاء ) ننتبه الى بعض الجداريات التي كنا سنمر بها دون ان ننتبه لها ... وفيها أله الخصوبة والمتمثل باحد الالهة وله عضو تناسلي يمتد الى مسافة طويلة امامه !!..







من (الرامسيسوم) ركبنا الحافلة ثانية لتقطع بنا مسافة قصيرة ثم تتوقف بموقف سيارات حديث مبلط... حيث وصلنا الى البوابة الرئيسية لوادي الملوك... اجراءات امنية وتم تفتيش سيارتنا ... ثم دخلنا البوابة الرئيسية حيث دفعت مبلغا اقل من بقية الاجانب الذين معي ... و دخلنا الى بناية كبيرة جدا فيها اماكن استراحة وصالة عرض للكنوز الفرعونية في هذا الوادي واهمها قبر توت عنخ أمون ... كما ان في البناية حمامات نظيفة وكافتريا ومحل لبيع التحفيات...خرجنا من الباب الثاني للمبنى حيث كانت في انتظارنا سيارة كهربائية تجر معها مجموعة عربات انيقة على شكل قاطرات..ركبنا فيها وسارت بنا مسافة حوالي مئتي متر حيث تقع اولى المقابر التي زرناها ...


(علاء الدين) مرشد سياحي جيد ...شرح لنا بشكل كامل عن المقبرة الاولي... فهو غير مسموح له بالكلام او الشرح داخل المعبد... كما لايسمح بالتقاط الصور بأي من المقابر ... كما ان هناك حراساً على باب كل مقبرة يطلبون من الزائرين ان يدخلوا المقبرة بصف واحد وتجنب الكلام داخل المقبرة منعا لحدوث صدى او اي امر قد يضر باللوحات الفنية الرائعة التي تصور مختلف جوانب الحياة عند الفراعنة القدماء... ثم تركنا (علاء الدين) ندخل وبقي لوحده خارجاً...... كانت المقبرة عبارة عن مبنى هائل الحجم من عدة ممرات وقاعات ...و قد وشحت بسقوف رائعة الالوان والرسوم والكتابة الهيروغليفية ...اضافة الى  الجداريات الملونة الرائعة واعجاز الهندسة وطرق البناء الذكية عند المصريين القدامي...
تعرفت على رفاقي في السفرة ... احدهم من (تشيلي) .. الاخر من (نيوزلندا) الثالث من (فرنسا) ... والسيدة التي معنا من (امريكا)...
الوادي هائل الحجم .. جبال متناثرة وقد اختار الفراعنة على مدى خمسمائة سنة  ان يبنوا مدافنهم في هذا الوادي...كل فرعون يختار جزءا من الجبل  او سفحه  لينحت منه مقبرة له ... واي مقبرة ... قصر كامل تحت الارض... الجدران المنحوته المزركش الملونة باروع الالوان والنحت... كتابات هيروغليفية مجسمة ... سقوف في غاية الدقة والجمال... غرفة تؤدي الى ممر طويل رائع الزخرفة ... ثم قاعة كبيرة .. تؤدي الى ممر اخر ثم الى قاعة اخرى... كلها داخل الجبل!!  كانت هذ المقابر- القصور تحتوي على نفائس هائلة من المصوغات والحلي وجميع الحاجيات التي يحتاجها الانسان في حياته اليومية ... كانت كلها تترك في المقبرة مع الفرعون لكي يستعملها في حياته الاخرى تحت الحراسة المشددة.. ولكن الحراسة تمر بفترات ضعف وفترات من الحروب الاهلية او فيضانات نهر النيل حيث يغمر اجزاء كبيرة من مقابر وادي الملوك ... وكانت تلك فرص ذهبية للصوص المقابر حتى في العصور القديمة جدا .. الفين سنة قبل الميلاد..... وتم نهب المقابر جميعا على مدى العصور ... جميع المقابر التسعة وستين مقبرة!! تم نهبها .. وقد تم العثور على احدى اوراق البردي التي تحكي عن محاكمة وحكم بالاعدام لمجموعة من لصوص المقابر.... نهبت القبور بكنوزها جميعا ..عدا واحدا... تم اكتشاف مقبرة الملك الشاب (توت عنخ أمون) كاملة دون ان تمسها يد اللصوص في عام 1923.. التحف والكنوز التي وجدت لايمكن للمرء ان يتخيلها ... المئات بل الالوف من القطع... كلها معروضة الان في المتحف المصري في (القاهرة) في ميدان التحرير.. وقد زرت المتحف اربعة مرات لحد الان.. وفي كل مرة تبهرني روعة كنوز (توت عنخ أمون)... العربات الملكية  اربعة اوخمسة ... عدة الصيد من قوس ونشاب واسلحة...خناجر وسيوف من الذهب والفضة... كرسي عرش من العاج الابيض والاخر من الخشب الاسود الابنوس.. والمغلف بالذهب والثالث والرابع ربما خمسة او كثر كراسي عرش.. اسرة نوم توت عنخ امون كانت ثلاثة او اربعة جميعها مغلفة ... اعداد هائلة من التماثيل والتحف والحلي والمجوهرات ..بل هناك اكثر من زوج من النعال المزينة بالذهب .. وضعت ليرتديها الملك في مسيرته نحو العالم الاخر... ان اردت ان تشاهد جميع ما عثر عليه في قبر (توت عنخ أمون) فانك بالتأكيد سوف تحتاج الى اكثر من  نهار كامل !!....





(وباكتشاف حجرة الدفن الأخيرة عام 2006 والمعروفة باسم (مقبرة 63) علاوة على اكتشاف مدخلين آخرين لنفس الحجرة خلال عام 2008، وصل عدد المقابر المكتشفة حتى الآن إلى 63 مقبرة متفاوتة الأحجام إذ تتراوح ما بين حفرة صغيرة في الأرض وحتى مقبرة معقدة التركيب تحوي أكثر من 120 حجرة دفن بداخلها.!  استخدمت هذه المقابر جميعها في دفن ملوك وأمراء الدولة الحديثة بمصر القديمة بالإضافة إلى بعض النبلاء ومن كان على علاقة بالأسرة الحاكمة في ذلك الوقت. وتتميز المقابر الملكية باحتوائها على رسومات ونقوش من الميثولوجيا المصرية القديمة توضح العقائد الدينية والمراسم التأبينية في ذلك الوقت. وجميع القبور المكتشفة قد تم فتحها ونهبها في العصور القديمة وعلى الرغم من ذلك بقت دليلا دامغا على قوة ورخاء ملوك ذلك الزمان) (المصدر: الويكيبيديا)
أحد المقابر  الجميلة كان يجب ان نتسلق سلم من الحديد الى علو شاهق ... لكي نصل الى مدخل القبر الذي كان في اعلى الجبل ... ثم من مدخل القبر نبدأ بالنزول داخل ممرات رائعة الجمال تنزل بنا اسفل ثم اسفل لنصل الى قاعات في غاية الروعة ... لا ادري كيف اصف ماكنت اراه ولكننا كنا جميعا مذهولين بجمال ما نراه...

وبما ان (وادي الملوك) هو مجموعة من المقابر المتفرقة المنتشرة على عرض الوادي وطوله... فأن دليلنا السياحي (علاء) اوصلنا الى قسم منها ثم جلس في احدى الاستراحات المضلله... ينتظرنا هناك وتركنا نتجول لوحدنا بعد ان ارشدنا بدقة الى اتجاه وكيفية دخول كل مقبرة منها ....
ولكثرة تلك المقابر... فان مديرية الاثار في الحكومة المصرية تسمح في كل فترة بزيارة عدد معين من المقابر وتغلق الاخرى لغرض منحها استراحة ... ولاغراض الصيانة....وحفاظاً على جمالياتها من التلف...
بعد الجولة والدخول الى ستة اوسبعة من المقابر الرائعة الجمال..  عدنا الى (علاء الدين ) حيث تمشينا الى المكان الذي ينتظرنا به القطار الكهربائي لنقلنا الى البوابة الرئيسية للوادي...
بعد الخروج ... ركبنا حافلتنا الصغيرة والتي اخذتنا الى مكاننا الثالث في (وادي الملوك) لهذا النهار... الى مقبرة (حتشبسوت)...
هنا كانت هناك بوابة جديدة ودفع رسوم جديدة ... بالنسبة لي كانت لاتكاد تذكر برخصها ... لكنها أثار تحير العقل بجمالها .... انني اعجب لكل من قد زار مصر... ثم لم يذهب الى (الاقصر)؟! علما بان جميع اهالي الاقصر بدون استثناء..يكنون الحب الشديد للشعب العراقي ... فاهلهم من الصعيد كانوا جميعا يعملون في العراق في بداية الثمانينات وجميعهم يرددون ان كل خيرهم هو من خير العراق ... وهو ما رأيته وسمعته من كل المصريين المكلفين بحراسة تلك المقابر التي زرناها... فهم يتمكنون من تمييز لوني عن باقي الاوربيين الذين معي .. وفورا يسألونني من اين انت ؟ وما ان اخبرهم انني عراقي ... حتى يوشكون على تقبيل يدي و هم يرددون عبارات الامتنان للعراق والعراقيين ... ويرددون (لحم اكتافنا من العراق)...  ورغم انك قد تجد ذلك في القاهرة ايضا الا انك تجده وبشدة وبكثرة كلما نزلت الى صعيد مصر... لان معظم من عملوا في العراق هم من الجنوب ... من الصعيد...





بعد دخول معبد (حتشبسوت ) والذي هو من اروع المباني ايضا ... لا ادري ماذا اكتب وماذا اردد... فكل مكان تزوره هنا هو اروع من الذي قبله والذي يليه!!... انا لست خبيرا بالاثار .. ولكني متأكد ان اي شخص خبير بالاثار سوف لن يغادر هذا المكان ربما لايام واسابيع للاطلاع على جزء ولو يسير مما يراه من روعة...
كان معبد (حتشبسوت) هو أخر معبد لنا ... عدنا منه  بنفس الطريقة وهي.. اولاً بالحافلة الصغيرة ثم المركب الى الجانب الشرقي من النيل .. 

وعند وصولنا الى الضفة الثانية ...صعدنا الى الشارع الرئيسي وقررنا عندم الركوب في الحافلة للعودة الى فندقنا ... ففندقنا ليس بالبعيد مشياً على الاقدام .. وان (ستيفاني) الامريكية قد اخبرتنا انها تعرف مطعماً جيداً للفلافل بأمكاننا الغداء فيه! وكان القرار بالاجماع  ان الوقت قد حان .... للفلافل!! رغم ان جميع من معي لم يتذوقوا او يسمعوا باسم الفلافل سابقاً...
وصلنا المطعم الذي كان على زاوية من الساحة الرئيسية المقابلة لمعبد الاقصر... كان محلاً صغيراً ليس فيه سوى حيز صغير لجلوس الزبائن وبالتالي فقد قررنا ان نأخذ (ساندويجات الفلافل) ونحملها معنا الى فندقنا وهناك (نجري وليمة فلافل) فيما بيننا ..
فرح صاحب المحل لكوني احدثه بالعربية .. وفرح اكثر عندما عرف انني من العراق.. واخذ يوزع حبات الفلافل على الجميع لتذوقها ...و كانت تلك اول مرة يتذوق بها الفلافل معظم  افراد مجموعتنا الصغيرة!! وجن جنونهم على طعمها اللذيذ....
ثم جاء وقت الساندويتشات ... كل منهم طلب الفلافل بالباذنجان وسندويشات اخرى بالبطاطس والطحينة كل واحد منهم طلب اربعة سندويشات صغيرة ... جميع الاربعة... بثمانية جنيهات.. اي (نصف دولار) فقط!!
عدنا الى الفندق حيث جلسنا في الاستراحة الانيقة في سطح الفندق .. وهو مكان جميل .. وجلسنا نتناول غدائنا مع احاديث عن الحياة والسياسة ..!!
بالنسبة لي فنومة الظهر لايمكن الاستغناء عنها!! هي اشبه بالطقس المقدس... نمت لغاية الخامسة عصراً.. ثم نزلت من غرفتي الى الصالة الارضية حيث طلبت قهوة بالحليب وجلست اتصفح الانترنيت ..

جاءت (ستيفاني) تسألني عماذا سوف افعله بقية اليوم .. اخبرتها انني اريد ان اتسوق المنتجات التي تشتهر بها (الاقصر) وهي (شاي الكركديه) و(التمر الهندي) .. والتي هي الافضل هنا في العالم... قالت بانها تود ان تأتي معي للتسوق ايضا... رفاقي في السفرة وجدو في شخصاً مفيداً جداً فانا اتحدث معهم بلغتهم الانكليزية ... واتحدث مع السكان المحليين باللغة العربية .. لغة الناس المحليين...
ولكي لا تذهب افكاركم بعيداً... (ستيفاني) هذه ممرضة متقاعدة امريكية عمرها قارب الستين سنة ... مطلقة .. تعمل في منظمة انسانية في جنوب افريقيا لتوزيع الدواء مجاناً لمرضى الايدز... انسانة طيبة جداً  ومرحة ومحبة للمغامرات... وتعجبت للفارق الحضاري بيننا وبين هؤلاء الناس... اذا انها كانت قد اشترت هدايا لتأخذها الى (زوجة طليقها)!!  (بالله عليكم من في مجتمعنا تشتري هدايا لزوجة... طليقها؟).
في حوالي السابعة خرجت (ستيفاني) معي اولاً الى محل صائغ مصري ينتج المصوغات على الطريقة الفرعونية ... وبنفس الابعاد والدقة ... جميع مصوغاته من الفضة المطعمة بالمينا الملونة .. غاية في الجمال والدقة ... شربنا عنده الشاي .. ثم خرجنا باتجاه السوق الرئيسي حيث نصحنا الصائغ المصري بأن افضل مكان لشرء (شاي الكركديه ) هو محل عطاريات اسمه (عطارة أل البيت) .. عرفت فيما بعد انهم ينتمون الى السادة من عائلة الكيلاني الصوفية.. ولديهم تكية في (الاقصر)...
في طريقنا الى محل العطارة استوقفني مطعم (كشري )...سألت (ستيفاني) ان كانت قد تذوقت ال(كشري ) من قبل؟ .. اجابت بالنفي وبأنها ترغب الان بالعشاء في  هذا المطعم ...


تناولنا ال(كشري) المخصوص... فصاحب المحل شعر بالزهو من دخول ضيوف اجانب ... ظن في البداية اننا زوج وزوجته ...  ثم اخبرته بانها مجرد سائحة تعرفت عليها  في الفندق.. واجزل المديح للعراق والعراقيين وحب العراقيين... ثم اجزل الذم للامريكان وما فعلوه بالعراق... مما جعل (ستيفاني ) تغطي وجهها وهي تقول ( اعرف .. اعرف.. اننا اشرار واننا اجرمنا بحق العراق.. منذ الصباح والناس تلومني على مافعلناه من جريمة في العراق... والله انني اعرف وانا خجلة مما فعلناه)... فطوال رحلتها معي سواء في الصباح في وادي الملوك او في محل الصائغ او في مطعم الكشري ... الكل يخبرها بانهم يلعنون امريكا على مافعلته بالعراق الحبيب الى قلوبهم...
ونحن نتناول عشاء ال(كشري) حكت لي (ستيفاني) عن رحلتها هذا الصباح ومغامرتها بالصعود بمنطاد الهواء الحار .. حكت لي كيف هي رحلة مريحة وسهلة وليس فيها اي خطورة ... وطمأنتني ان بمقدوري ان اعملها... وبما ان حلمي منذ ان بدأت القراءة عن (الاقصر) وعن زيارتها .. فان حلمي ايضا هو ان اعتلي المنطاد واتجول فوق معابد الاقصر وانا محلق في السماء...!
في باب مطعم الكشري ترصدني سائق عربة يجرها حصان (حنطور)... قال لي ( والله انا اريد ان اطعم الحصان ولكني ليس لي ثمن علف له )... اخرجت له عشرة جنيهات وقلت له خذها واطعم الحصان... اخذ النقود ولكنه لم يتركنا بحجة انه لا يرضيه ان يأخذ النقود مجانا وانه يريد ان يوصلنا بعربته الى محل العطارة ... ولم تنفع كل محاولاتنا معه لاقناعه اننا نفضل المشي على الاقدام .. لا الى ركب (الحنطور)... الا اننا خضعنا بالنهاية لالحاحه ... واوصلنا الى محل العطارة ليبقى واقفا هناك طوال فترة تسوقنا...
الازمة خانقة جدا لاهالي (الاقصر) ... في السابق كان الالوف من السواح الروس والاوربيون يزورون هذه المدينة وكان جميع اهالي المدينة يعتاشون على السياحة ... المخازن والمطاعم والتاكسيات والحناطير وباعة التحفيات .. كل المهن وكل الناس كلها تعتاش على السياحة ... والان السياحة ... صفر... السواح قليلون جدا .. ربما هم الان واحد بالمئة فقط من مجموع من كان يزور هذه المدينة التي جاع اهلها وفقدوا موردهم الوحيد ... السواح والسياحة ...
وضع مؤلم جداً... فنادق كثيرة اغلقت ابوابها ... اناس كثيرون لايملكون قوت يومهم... حال مؤلم لمدينة  تحتوي على ثلثي اثار العالم ... وتعتبر كنز من كنوز العالم بأسره ....
استقبلنا (محمد الكيلاني) صاحب محل العطارة بالترحيب ...خصوصا عندما عرف انني من بغداد حيث يرقد (الشيخ عبدالقادر الكيلاني)... اشتريت منه كمية كبيرة من ال(شاي كركديه) و من (التمر هندي) وبعد ان حاسبته على السعر .. واعطيته المبلغ .. رفض ان يأخذ ثمن بضع اكياس صغيرة من المكسرات والتمر والشاي التي اشترتها (ستيفاني)! والتي عادت فرحة سعيدة بانها حصلت على تسوقها .. مجاناً..
بعد وصولي الى الفندق تمكن (عمرو) من ايجاد حجز لي على رحلة الغد  ... ومغامرة غدا المثيرة ... التجول بالمنطاد فوق (وادي الملوك) ...دفعت ل(عمرو) مبلغ الرحلة مقدماُ... (مئتين وثمانين) جنيهاً وهي اقل من عشرين دولاراً!! لا يمكن ان تحصل على رحلة بالمنطاد بسعر ارخص من هذا! ولكنها ازمة السياحة التي يعانون منها جعلت كل الاسعار في متناول الجميع ...!! شدد (عمرو) التأكيد على ان المغادرة الى المنطاد في الرابعة والنصف ليلا اي قبل الفجر بنصف ساعة ... حيث سوف تأتي سيارة لتأخذني في تلك الرحلة...


الاثنين 7 تشرين الثاني 2016
دقت ساعة المنبه تنبأني ان الوقت قد حان ... الرابعة والربع ليلا.. ارتديت ملابس سميكة فالفجر بارد في الصحراء... ونزلت الى صالة الفندق حيث وجدت اربعة شباب من كوريا في صالة الفندق ايضا في انتظار رحلة المناطيد... بعد بضع دقائق جاء تاكسي اخذني لوحدي وبقي الكوريون .. حيث فهمت ان المناطيد تنظمها شركات سياحة متعددة ومختلفة ... وانني سوف تستضيفني شركة مختلفة عن الكوريون... اوصلني التاكسي الى حافة النيل حيث انزلني المرشد السياحي الذي صاحبني من الفندق الى  قارب كبير صفت فيه وجبات خفيفة للفطور من معجنات وقهوة وشاي ... تناولت فطوري ... وقبل ان ينطلق القارب ضجت مدينة (الاقصر) باصوات اذان الفجر... سألت المرشد السياحي ان كان هناك وقت لي للصلاة .. فارشدني الى مصلى انيق على حافة النيل يستعمله ال(مراكبية والصيادين)... صليت فيه ثم عدت الى المركب الذي انطلق بعد دقائق...
تم اركابنا بحافلات صغيرة والتي انطلقت بدورها لمسافة ربع ساعة في  المزارع ثم متوغله في الارض الصحراوية .. ثم وصلنا الى محطة انطلاق المناطيد... عشرات من المناطيد الجميلة الملونة ... بعضها قد حلق اصلا في السماء والبعض لايزال يضخون فيها الهواء الحار .. اركبوني على عجل في منطاد كان قد امتلأ بالهواء واوشك على الانطلاق .. الصعود كان بسلم المنيوم وضع جنب السلة الرئيسية للمنطاد... سلة المنطاد فيها خانتين كبيرتين على الجانبين تتسع كل منها لعشرة اشخاص وخانة في الوسط للكابتن الطيار والمسؤول عن شعلة الغاز التي تقوم بتسخين الهواء.. وهو مسؤول عن توجيه المنطاد وقيادته.. 
انطلاق المنطاد... وفرحة الجميع
 وطوال الرحلة لم اره يرتح دقيقة واحدة فقد كان طوال الوقت ينظر الى الاسفل يمينا ُ وشمالا ويوجه منطاده بحبال كل منها له لون معين ... ويده الاخرى على دواسة الغاز مطلقا دوياُ عاليا يصم الاذان يأتي من موقد النار التي تسخن الهواء ....
عالياً في السماء


متعة لا يمكن وصفها




شروق الشمس في الفضاء


وانطلقنا في السماء... وصلنا الى ارتفاع ثلاثة الاف قدم .. اي كيلومترا فوف سطح الارض ونحن نتحرك فوق الوادي .. شعور رائع ممتع .. حولي وفود من مختلف دول العالم .. امريكا الجنوبية ... امريكان ... صينيين... وفجأة علا صياح الفرح عند الركاب .. اذ اعلن لنا ال(كابتن) ان ننظر الى الشرق حيث بدأ قرص الشمس بالظهور... منظر رائع أخر... ومتعة اخرى ...






استغرقت رحلة المنطاد حوالي الساعة ... كان ال(كابتن) قد اعطانا درساً سريعا قبل الانطلاق.. الى تعليمات الهبوط... حيث اننا في اثناء الهبوط يجب ان نمسك بحبل سميك مثبت بالسلة ونجلس القرفصاء داخل السلة ونبقى بهذ الوضع لحين استكمال الهبوط تماما... وهذا ما فعلناه بمجرد صدور الامر من ال(كابتن)...
لحظة تلقي الامر بالهبوط



نزل بنا المنطاد في مكان صحراوي غير مكان انطلاقنا ... كان (الكابتن) على اتصال بالفريق الارضي .. حيث وصلت فورا سيارة نقل كبيرة فيها عشرة من العمال .. قاموا بعملية تفريغ المنطاد من الهواء الحار.. ثم طويه بعناية عدة طويات ثم تحميله على  سيارة النقل...
اما نحن فقد شكرنا ال(كابتن) وتبرعنا بمبالغ بسيطة للفريق الارضي .. وانطلقت بنا الحافلات الصغيرة الى حيث  تنتظرنا المراكب التي عادت بنا الى الشاطئ الشرقي من (الاقصر) في رحلة رائعة بمنطاد الهواء الحار... بالنسبة لي كانت حلماً... اصبح حقيقة...


عدت مباشرة الى غرفتي حيث غيرت ملابسي السميكة لان الجو بدأت تزداد حرارته ... حزمت امتعتي لمغادرة الفندق لانني اليوم سوف اعود الى القاهرة في قطار الساعة الثانية عشرة ظهراً...
نزلت الى صالة الطابق الارضي حيث تناولت طعام الفطور... ثم اخبرت (ستيفاني ) بانني سوف اذهب الى معبد (الكرنك) فطلبت مني ان ترافقني لانها لم تر معبد الكرنك بعد...  ركبنا سيارة الى المعبد الذي كان يبعد حوالي ربع ساعة عن فندقنا...
دفعت المبلغ البسيط للدخول.... عشرة جنيهات اي الف دينار عراقي فقط... .. اما ستيفاني فقد دفعت خمسين جنيهاً اي مايساوي اربعة دولارات ... وهو مبلغ تافه هو الاخر على مكان هو احد اهم معالم الحضارة الانسانية ... تجولنا في المعبد ونحن مبهورون تماما بروعة المكان.... هو عدة معابد في مكان واحد... شيد على مدى فترات طويلة ... فكل فرعون يحاول ان يبني معبداً اجمل من سابقه واكثر اعجازا من الناحية الهندسية... ولايزال العلماء متحيرون لحد الان كيف تمكن الفراعنه من تنصيب اعمدة هائلة الحجم يبلغ علوها اكثر من عشرين متراً وبدقة متناهية ...













من القصص الطريفة لهذا المعبد ان الفرعون (اخناتون) بنى معبداً هنا ... ولكنه تحول الى ديانة توحيد الله على يد نبي الله (يوسف)... وحاول ان يحمل كل شعبه على التوحيد... الا انه توفى فما كان من كهنة المعابد الا ان عادوا الى ديانتهم القديمة في عبادة الفرعون... وقاموا بهدم المعبد الذي بناه (اخناتون) حجراً حجراً بحيث لم يبقوا له من اثر بسبب حقدهم وحنقهم عليه...
في حوالي العاشرة والنصف عدنا بالسيارة الى الفندق حيث حملت اغراضي وانطلقت الى محطة القطار مشياً لانها كانت جد قريبة من فندقي....
كنت قد اشتريت تذكرة القطار .. الدرجة الاولى تكييف... ومع ذلك فلم يكن القطار بمستوى مقبول من ناحية الصيانة والنظافة ... بل وحتى هواء القطار كان ملوثاً... وكنت قد جلبت معي مجلة كما جلبت معي وجبة الغداء ... فرحلة القطار تستغرق عشرة ساعات كاملة للوصول الى القاهرة ... مرت بملل مزعج وكانت تجربة القطار تجربة قاسية لم اكن سأخوضها لولا عدم تمكني من العثور على حجز على الطائرة بين الاقصر والقاهرة....
وبذا اكون حققت البعض من  احلامي الكثيرة في حياتي ...تلك هي زيارة (الاقصر).. واثارها الرائعة ... وركوب المنطاد... وربما كان جزء من التجربة .. تلك التجربة المرة ان اسافر بالقطار من (الاقصر) الى (القاهرة) ... تجربة لاانصح بها احداً ... ابداً